بسم الله الرحمن الرحيم
المدونة ١٤
بلغت الدولة العثمانية ذروة قوتها في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني (رحمه الله)، أو سليمان العظيم كما يسميه العالم الأوروبي. وكانت عظمة الامبراطورية ، وهي الاعظم في العالم في زمنه، تشمل كافة المجالات مثل الإدارة العامة، الاقتصاد، والتعليم وغيرها.
استنجد ملك فرنسا فرنسيس الأول بالسلطان سليمان عندما وقع في أسر الإسبان عام 1525، فأرسل السلطان العثماني قوة أنقذته وأعادته لعرشه، وكانت اسبانيا امبراطورية عظمى في حينه.
كانت الوفود مهما عظمت تأتي السلطان وهو جالس على عرشه لتسلم عليه وتطلب رضاه. لكن السلطان كان ينهض عن عرشه ليستقبل “المدرس” أو الأستاذ من باب الديوان، وهو شرف طالما تمناه الأمراء والقادة.
التعليم هو الاطار الرسمي لعملية التعلم، ويمثل التعليم التأسيسي اهم مراحله، وهي السنوات الست الاولى منه
وفي زمننا هذا، روي لي صديق انه كلما زار صديقا ألمانيا له في بيته، وجد إبنه ينكب على الدراسة بشكل يلفت الانتباه. فسأله الزائر: ما هي الدراسة أو المهنة التي تحتاج كل هذا الدرس والوقت؟ فأجابه صديقه الألماني بأن ابنه يريد أن يصبح ، أستاذ مرحلة تأسيسية، فهذه المهنة هي الأكثر احتراما وكسبا في تلك المقاطعة الألمانية .
ولن تنهض امة دون دعم متميز للتعليم.
النهضة هي بوصلة هذه المدونة، ودور التعليم المدرسي في النهضة هو ما نبحث عنه ونرجو تعزيزه، والنهضة احياء التعلم واحياء الثقافة، فاين التعليم المدرسي من ذلك؟ا
تتشكل شخصية الانسان بأغلبيتها في السنوات السبع الاولى من عمره، وتتناقص مساهمة السنوات في تشكيل الشخصية وصولا الى سن الواحد والعشرين ، حيث لا تغيير بعد ذلك، وما تراه.. هو ما سيكون دائما
ان اهم عناصر احياء التعلم واحياء الثقافة هو احياء اللغة التي هي اداتهما ووعائهما، وتكون بعدهاالعقائد والاخلاق والقيم والعادات التي اعتمدتها الامة, لتتبعها الحرف والمهارات وكلها يحتاج الى التعلم والاتقان
يوضح اعلاه اهمية تركيز التعليم التأسيسي على مهارات اللغة العربية، وهي لغة الامة ووعاء ثقافتها، ولن تكون للامة نهضة بلغة مستوردة، وابداعنا بلغة مستوردة هو دعم لثقافة و لنهضة اصحاب هذه اللغة. ولن نتمكن من تعليم الامة كلها هذه اللغة المستوردة، وسنكون دائما متخلفين تابعين لاصحابها، وستفصلنا عن تاريخنا وثقافتنا ومخزوننا المكتوب كما حصل في تركيا وذلك عندما غيرت الحرف فقط وليس اللغة كلها
كما ويكون التركيز على مهارات الاتصال والتواصل مع الاخرين، في مهارات الكتابة والخطابة والالقاء ، وقد تنبه اساتذة حضارتنا لذلك في التاريخ البعيد والقريب، فكانت احتفالات ما يعادل السادس الابتدائي او الختمة تمثل حدثا كبيرا في حياة الاطفال واهاليهم ومصدر فخر واعتزاز، ولم يكن واضحا لدينا ان هذا التركيز على اللغة والدين ومهاراتهما لهذه الاعمار الصغيرة، اساس تشكيل شخصية هؤلاء الاطفال، على الانتماء والالتزام بثقافة الامة وبالتالي نهضتها
وكم يمنع هذا التأسيس الوطني المشترك، ظهور تناقض التصور بين شباب الامة، وعدم قدرتهم على التفاهم، نتيجة تشكيل شخصياتهم في قوالب ثقافية مختلفة ، تقدمها لنا المدارس الاجنبية والتي تعكس كل منها ثقافة دولة منشأها. .
يمتد تاريخ التعليم بشكله الحالي، والمكون من استاذ وتلاميذ يدرسون القراءة والكتابة السليمة ومبادئ العلوم المتوفرة الى اكثر من اربعة الاف سنة، ويشمل التعليم بمراحله جميعها ما يقارب ثلث السكان، ولهذا فان اي محاولة للتحديث او التغيير، ستكون هائلة الحجم والالتزامات، وبطيئة التطبيق والنتائج
التعليم المدرسي هو الأساس.. وهل يصح البناء إذا ما كان الأساس معوجا ، ونسأل هنا، من المسؤول عن التصميم والتنفيذوالتعديل والتصحيح السليم للاساس
تقوم جامعات عالمية عريقة بدور أساسي في عمل الدراسات والأبحاث لوضع المنهجيات الأفضل لإنتاج الطالب المؤهل لقيادة وإدارة وتشغيل الأمة. فمن يقوم عندنا بهذا الدور؟
ذكر صديق لي يعمل في احدى اكبر شركات البرمجيات في العالم أنه تفرغ للحصول على درجة الدكتوراة من جامعة كامبردج البريطانية المشهورة في مجال بناء عمليات جديدة للتعليم المدرسي المستقبلي، تتناسب مع انتشار الإنترنت وتوفر المعرفة، وكيف أن بعض الطلبة يذهبون إلى الصف وهم أكثر تأهيلا ومعرفة بدرسهم من المدرس في بعض الأحيان، وكيف ان دور المدرس يجب أن يتحول إلى إدارة الفصل وإدارة تبادل المعرفة بين الطلبة بدلا من التلقين
واذا بكليات للتعليم، موجودة في كافة الجامعات الرائدة في العالم، تنتج المخططين والمنفذين وافضل الممارسات في التعليم ومنطقتنا تعيش على فتات خبراء اجانب ، يزوروننا ليكملوا ابحاثهم ودراساتهم، واذا بالتعليم عندنا يتيم لا ينتج ثقافة ولا يثمر نهضة.
توصل أهل الصين والدول الآسيوية المجاورة في علومهم القديمة إلى أن شخصية الإنسان تتشكل وتتكون من عدة صفات عقلية مميزة. وابدع بعدها علماء غربيون في تنظيم هذه المعرفة ووضع امتحانات قياس لها. فعلى سبيل المثال، هناك الشخصية الاجتماعية المنفتحة وهناك الشخصية الاجتماعية المنغلقة ، يعشق النوع الأول الحياة بوجود الآخرين والتشارك معهم في فرحهم وترحهم وفكرهم ومشاعرهم، بينما يستمتع الآخر بوحدته وبعالمه وخصوصيته. وينتشر باقي الناس في هذا السلم أو المسطرة او التدريج من نسب اختلاط الشخصيتين.
وهناك من الناس من تسأله في مسألة معينة، فيعطيك الجواب فورا. وهناك من تسأله فيجيب بأن هذا الموضوع بحاجة إلى بحث ودرس، ويسألك الوقت الطويل. وباقي الناس كذلك يتدرجون بين هذين النوعين.
وهكذا هناك سبعة عشر تدريجا مختلفا لقياس القدرات العقلية للافراد.
إن شخصية كل منا تتلخص في نقاط وجودنا على هذه المساطر، وتعطينا هذه النقاط ما نصلح له من المهن وما لا نصلح له. على سبيل المثال: هل ترون أن شخصا منغلقا يصلح أن يكون بائعا ناجحا؟
وتظهر خلال هذا التحليل، صفات القيادة والقدرة على التحليل وغيرها، بحيث أن شركات التوظيف اعتمدت فحوصا معيارية لتبيان نوع شحصية المتقدم لوظيفة ومدى مناسبته لتلك الوظيفة. وكذلك تفعل شركات انتقاء الزوج أو الشريك المناسب .
ابتدأت دول متقدمة مثل أستراليا بفحص الطلبة في مرحلة عمرية مبكرة ومناقشة نتائجهم والمهن المناسبة لهم مستقبلا، حتى لا يضيعوا عمرهم في دراسة ما لا يستطيعون إبداعه وإتقانه، فالمستقبل للمبدع والمتفوق في عالم العولمة والانفتاح المستمر،حيث سينافس أولادنا لوظيفة ما عشرة صينيين ومثلهم من الهنود، ولدى كل منا امثلة عن اناس درسوا وكلفوا اهلهم وامتهم المبالغ الطائلة، ليتجهوا في الحياة الى مواضيع شغفهم والتي لا علاقة لها بما درسوا وليبدعوا فيها، تخيلوا لو درس هؤلاء منذ نعومة اظافرهم مواضيع شغفهم؟
وفي النهاية اعتقد ان تعليم الاطفال في مرحلة التأسيس، لغة الامة وعقائدها وقيمها واخلاقها، ومهارات التواصل بلغتهم الام، وافساح المجال والوقت لهم للرياضة والفسح الطبيعية والتعرف على وطنهم، وبناء المواطن الصالح المنتمي لامته افضل من حشو راسه بالغث والسمين والذي لن يتذكر منه الا القليل ، حتى يصبح مشوش الانتماء، ضعيف الولاء ، جاهزا للانفصال عن امته وثقافته
وتأتي المرحلة اللاحقة للتأسيس، لنتأكد من مادة شغف الطالب، وليتم توجيهه اليها مبكرا، وتقديمه الى مؤسساتها في تدريب مستمر، في عالم مهنته، فان رغب في مهنة من مهن البناء مثلا، يذهب الي صفوف تتخصص موادها بمعرفة البناء ، علما وعملا وتدريبا.
وبتخليصه من دراسة مواد لا يحبها، يتوفر له الوقت للتدريب العملي في الشركات والمؤسسات المعنية، ويتم تسمية خبير من مهنته يكون له مرشدا في تخصصه ومرجعا، يقوم مقام الاب في مجال تخصصه. وان رغب في العمل بعد ذلك ، وعدم الذهاب الى الجامعة، كان مؤهلا للسوق مدربا ومحترفا، وان احب الذهاب الى الجامعة ابدع فيها، وذلك بدلا من تعليم جامعي حالي، ذو دلالة اجتماعية، ولا مساهمة انتاجية له
آمل ان اكون قد وفقت في توضيح دور التعليم في النهضة، وان اصلاحه مسار طويل، تظهر نتائجه عند دخول خريجيه سوق العمل، اي بعد احد عشر عاما على الاقل.
سنتناول في المدونات اللاحقة ميزات ثقافتنا الحسنة والتي يمكن ان تكون ادواتنا ومركباتنا في السباق واللحاق، في ميدان الابداع والتفوق الانساني، وتعويض تخلفنا عن الركب
نسأل الله التوفيق والرشاد