بسم الله الرحمن الرحيم
مدونة ١٨
ينسب اصطلاح الثقافة الهيلينية الى اسم اليونان القديم، وقد سيطرت هذه الثقافة على منطقة شاسعة امتدت من اليونان غربا الى الهند شرقا، وشملت ثقافات وحضارات عظيمة مثل مصر وفارس، اكتسحها بالسيف قائد عسكري عظيم هو الاسكندر المقدوني، ربيب فيلسوف عظيم هو ارسطو الذي لم يحمل اي حب للثقافة الاخرى السائدة في ذلك الزمان، وهي الفارسية. حمل الاسكندر احلاما عظيمة ببناء ثقافة هيلينية غالبة، تتسع للامم الاخرى وثقافاتهم طحنا واستيعابا ليصبحوا افرادا مخلصين للثقافة الغالبة، وهو مماثل لسياسة الاستيعاب الثقافي التي نراها في الولايات المتحدة في هذه الايام او ما يعرف بالقدر الصاهر، حيث تصهر الثقافة الامريكية الغالبة الثقافات الاخرى للمهاجرين الجدد، مقارنة مع المقاربة الكندية التي تمنح الثقافات الاخرى مجالا اوسع فيما يعرف بالتعددية الثقافية، ضمن الثقافة الكندية الغالبة.
قام الاسكندر بتدمير رائعة فارس وعاصمتها برسيبوليس سنة ٣٣٠ ق م، نهبا وسلبا واحراقا وساواها بالارض ما استطاع، ودمر مدنا ومراكز حضارية اخرى مثل صورالفينيقية سنة ٣٣٢ قبل الميلاد، وباع اهلها عبيدا، في مسعى واضح لتدمير الثقافات القديمة. وانشأ حوالي عشرين مدينة جديدة مصممة على الطراز اليوناني، كثير منها يحمل اسمه، مثل الاسكندرية في مصر وفي العراق، واصبحت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية وعاشت في ظلها اللغات المحلية الاخرى في مختلف المناطق، وكان هذا اسلوب متقدم لزرع مراكز ثقافية دائمة في الاراضي المفتوحة. وعقد الاسكندر زواج الالاف من جنوده وابناء وطنه على نساء المدن المفتوحة وضرب مثالا بنفسه.
وما زال اسلوب تدمير حواضر وعواصم الثقافات التي تمثل مشروعا ثقافيا وحضاريا منافسا معتمدا، وما نهب آثار البلدان الاسلامية ومتاحفها ومخطوطاتها وكتبها ومحاربة مفكريها ولغتها الا خطوات على طريق ازالة هذه الثقافة واستبدالها بثقافة اخرى غالبة. أليست الثقافة مجموع المعارف والعقائد والعادات والحرف وهكذا، أليست هذه الآثار ادلة اثبات وتخليد ومستودع لهذه الثقافة للاجيال القادمة؟
وكما ذكر ابن خلدون في روائعه الرائدة في علوم السياسة والاجتماع وفلسفة التاريخ، ان المنتصر يتعلم من المنهزم ، كذلك يفرض المنتصر عاداته وثقافته على المنهزم. وبذلك تحولت الثقافة الهلينية الى ما يعرف بالثقافة الهلنستية، وامتدت فترة سيطرة هذه الثقافة من سنة ٣٢٣ قبل الميلاد الى سنة ٣٠ ق.م. تقريبا. واصبح الضباط اليونان وعائلاتهم هم الحكام الجدد والارستقراطية الجديدة، وكان ممن ورثوا الممالك التي توزعها جنرالات الاسكندر، بطليموس في مصر وامتد حكم البطالسة حتى الملكة كليوبترا اليونانية، حين قضت روما عليهم وورثتهم.
جاءت الامبراطورية الرومانية، بقوة عسكرية غير مسبوقة، ولكن بثقافة متواضعة مقارنة باليونانية. اكتسحوا العالم القديم بقوتهم الهائلة وقسوتهم، وضموا وتبنوا ما وجدوه من حضارات وديانات وعادات واخذت الالهة اليونانية والمصرية وغيرها اسماءا رومانية وعبدوها طمعا في ضم قوتها الى جانبهم. ونقلوا من المصريين واليونانيين معارفهم المتميزة، وخصوصا من الاسكندرية عاصمة العالم في كل تقدم ومعرفة. واصبحت الرومانية هي اللغة الرسمية، واصبح العالم القديم امبراطورية رومانية. وما اشبه ما حصل في ذلك الزمان بما حصل في منتصف القرن الثامن عشر، حيث انطلقت اوروبا بتكنولوجيا عسكرية متفوقة، فأخضعت امما وثقافات أعظم منها مثل الصين وامبراطوريات العالم الاسلامي في الهند وفارس وتركيا، وجمعت معارف الارض، وادعت ملكية الكثير منها.
جاءت المسيحية الى العالم، دينا عظيما في انسانيته واخلاقه، يوضح ان ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وانه لا يدخل ملكوت الرب غني، فصل كامل بين الدين والدنيا، ودعوة الناس الى الزهد في الدنيا، ولم تشمل شريعة واحكام، بل اقرت شريعة موسى عليه السلام. انتشرت المسيحية او النصرانية كما يسميها القرآن الكريم- وتعني انصار السيد المسيح عليه السلام- انتشرت في الشرق الاوسط وشمال افريقيا واوروبا ببطء وضد ارهاب قاهر لا يرحم من دولة كبرى هي الدولة الرومانية، وبتحريض من اليهود الذين وجدوا في السيد المسيح دعيا لمن ينتظروه مسيحا، اي انه ليس المسيح الحقيقي الذي ينتظرونه، وخطرا كبيرا على مصالحهم التجارية وخصوصا الربا، وما حادثة عنف السيد المسيح ضد تجار الهيكل ببعيدة عن هذا.
انتشرت المسيحية في العالم القديم وتحديدا حوض البحر الابيض المتوسط، بعد تبني الامبراطور قسطنطين وامه الملكة هيلانة الديانة المسيحية، وكان هناك مدرستين رئيسيتين على الاقل في المسيحية، المسيح انسان رسول، وله خصوصية اعجاز حمل امه له، ومعجزات خارقة، وهذه مدرسة رجل الدين المسيحي المعروف آريوس، ومدرسة أخرى تقول بتأليه السيد المسيح عليه السلام. كان الامبراطور يسعى الى خلق امبراطورية واحدة تحت حكم امبراطور واحد وتؤمن بدين واحد، لم يعجبه الاختلاف، فامر اصحاب المدارس المختلفة بالاجتماع وتوحيد الدين على اي وجه، وفي نيقية عام ٣٢٥م عقد مجمع ديني حاسم وتبنى تأليه السيد المسيح اولا وبعده بسنين طويلة تم اعتماد ألوهية الروح القدس وأعلن المجمع هرطقة وكفر اريوس. قام الامبراطور باضطهاد وقتل الاريسيين وتختلف الارقام هنا كثيرا.
وقد عفا الامبراطور قسطنطين عن آريوس فيما بعد، ومات آريوس مسموما بعد عودته من منفاه في اسبانيا.
اعتنقت القبائل الجرمانية التي سيطرت على معظم اوروبا خلال القرنين الخامس والسادس، العقيدة الاريسية، ما عدا الفرانكس حيث تحول ملكهم كلوفيس من الاريسية الى عقيدة التثليث سنة ٤٩٦ م بضغط من زوجته، وتحولت باقي هذه القبائل بعد ذاك الى عقيدة التثليث التى تبنتها الامبراطورية، وقد تحول ملك الفيسيغوث، وهي احدي القبائل الالمانية التي احتلت اسبانيا، في سنة ٥٩٨ ميلادية، وهو ما ليس ببعيد قبل الاسلام. ولم تكن العقيدة الاريسية هامشية كما يتم تصويرها. وانتشر الفاندال الاريسيون في شمال افريقيا قدوما من اسبانيا.
مع ظهور الاسلام، كان معظم سكان شمال افريقيا من اتباع المذهب الاريوسي والذي يتطابق مع عقيدة المسلمين، وهذا ما يمكن ان يفسر سرعة انتشار الاسلام في هذه المناطق وبين سكانها الذين عانوا بسبب عقيدتهم على يد الامبراطورية الرومانية. وكيف استطاع عمرو بن العاص فتح مصر بأربعة الاف جندي لولا دعم الاريسيين من السكان. وقد خلدت رسالة محمد عليه السلام الى هرقل قيصر الروم، العقيدة الواحدة التي تجمع المسيحيين الاريسيين والمسلمين والتي قال فيها “بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، اما بعد، فاني أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وان توليت فان عليك إثم الاريسين
قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله فان تولوا فقولو اشهدوا بأنا مسلمون”
وما زالت هذه العقيدة موجودة في كنائس الموحدين ومن اتباعها اناس مشهورون كثيرون منهم العالم المشهور نيوتن الذي درس الدين المسيحي ثلاثين عاما.Unitarian Church
وبتحليل ما سبق، نجد ان الثقافات اليونانية والرومانية الوثنية والرومانية المسيحية، فرضت نفسها بالسيف والفوقية، وحكم الارستقراط وديمقراطية النخبة من الامم الغالبة، ودامت هذه الثقافات غالبة فيما يعرف بالعالم الاسلامي اليوم ما دام التفوق العسكري قائما، ودامت كل مرحلة في هذه المنطقة ما يقارب الثلاثماية سنة.
جاء الاسلام بدعوة المساواة، واعلن انه امتداد وتصديق لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام من هدى ونور، وانه دين ابي الانبياء ابراهيم عليه السلام ، وان الناس سواسية كاسنان المشط، ولافرق لعربي على عجمي الا بالتقوى وهي ما اختص الله عز وجل بمعرفته، حيث ورد في سورة النجم “فلا تزكوا انفسكم هو اعلم بمن اتقى”، وبذلك يبقى لنا ان الناس متساوون كاسنان المشط. وجاء في الحديث الشريف “أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس“، وكما ذكرنا سابقا ان القرآن ذكر تكريم بني ادم في اكثر من مكان مثل ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر. وايضا اني جاعل في الارض خليفة. ويعني الانسان.
نلاحظ فيما سبق، ان التكريم والمساواة والافضلية هي للانسان الافضل وليس للمسلمين فحسب. وتقبلت الامم في منطقة الاسلام الدين الجديد، والذي يغطي الدين والدنيا ، فيشمل عقيدة وشريعة، وانطلقت الثقافة الاسلامية وما زالت حية ثابتة في قلوب وعقول اصحابها من كل الامم برغم تقلب من يحكم ومن بيده السيف، يغمرهم احساس بالاخوة والمساواة، والمشاركة في الافراح والاحزان، شاملة اخوانهم من اتباع الديانات الشقيقة من مسيحية ويهودية وغيرها، شركاؤهم في الثقافة الاسلامية، ومن افضل دفاعا عن الثقافة الاسلامية من ابنائها العلماء، مثل البروفسور ادوارد سعيد رحمه الله، في كتابه الرائع الاستشراق. وترى كذلك روح الثقافة ونفسها تفيضان من جبران خليل جبران رحمه الله، في كتابه (النبي) حيث يمتلئ الكتاب باصطلاحات ومفردات اسلامية. ولا ننسى ابدا مساهمات مسيحيي بلاد الشام في الحفاظ على اللغة العربية وقواميسها وقبلهم ممن ترجموا المعارف السابقة، مرورا بقادة الفكر السياسي في المراحل المختلفة وصولا الى د. عزمي بشارة.
وهذا غيض من فيض، وما زالت المنطقة الاسلامية مع اختلاف عناصرها جنسا ودينا ، تشهد تبنيا لهذه الثقافة الغالبة المتجذرة ، التزاما قويا حيا خلاقا، مع تمييز ذكي، بين سماحة الثقافة وتعنت التطبيق في بعض الاحيان، يميز ذلك شعورا شخصيا بملكية الثقافة وبمسؤولية عنها ، تبنيا امتد اربعة عشر قرنا وما يزال مقارنة مع فترات الثقافات السابقة.
نأمل ان نكمل مناقشة عناصر قوة الثقافة الاسلامية في المدونة التالية ان شاء الله
نسأل الله التوفيق والرشاد
رائع جدا ..
مدونة مليئة بالمعلومات وقراءة متميزة للتاريخ والثقافات
أنتظر عناصر القوة في الثقافة الاسلامية في المدونة القادمة
لمعرفة الفرص المتاحة لنا لاعادة احياء هذه الامة
تحياتي
السلام عليكم اخي هيثم
ان ثبات الثقافة الاسلامية في قلوب اهل منطقتها واتباعها لمدة اربعة عشر قرنا مقارنة مع الثقافات الاخرى التي دامت ما دام سيف يحميها ولمدد تقارب الثلاثماية سنة لكل منها ، هو عنصر قوة ودلالة ثبات للثقافة رغم .
تقلب الحكام والدول ومنها مثلا الشيوعية التي حاولت تدمير هذه الثقافة في آسيا الوسطى بكل امكانية الدولة العظمى
مع تحياتي وشكري
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
إسمي ياسر، مؤسس موقع علوم العرب ( مشاهدة أفلام وثائقية عربية و مقالات علمية)
أؤمن بشدة بنهضة في العالم العربي. إذا أردت أن تنشر كتاباتك في موقع علوم العرب، فأنا لا أمانع في ذلك.
سوف تكون فرصة ممتازة لإيصال أفكارك لعدد كبير من العرب.
موقع علوم العرب ؛ حوالي 25 ألف صفحة في اليوم / 6 آلاف زائر يومي
ياسر
وعليكم السلام اخي ياسر
يسعدني ويشرفني ان تنشر هذه المدونة في موقعكم الكريم وليكن الجهد مشترك والدعم متصل لتحقيق نهضة هذه الامة ان شاء الله
مع شكري وتقديري