بسم الله الرحمن الرحيم
مدونة رقم ٤٢
الحملات الصليبية – البعد الاقتصادي
ما ان بدأت اوروبا تنتعش اقتصاديا مع نهاية الالف الميلادية الاولى، حتى توافد المقتدرون الاوروبيون للحج الى بيت المقدس. وكما ذكرت سابقا فقد توافق ذلك مع تغير الحكم الفاطمي المتساهل الى الحكم السلجوقي المتشدد مع هؤلاء الحجاج. وتواترت قصص الحجاج عن غنى العالم الاسلامي الخيالي. فتح ذلك شهية الاطراف كلها. طمع الملوك في مزيد من الملك والثروة، وطمع الامراء والفرسان المؤهلين قتاليا والفقراء ماديا في حكم اراض جديدة وفي حصة من كعكة هائلة من الثروة. ووعد البابا ارقاء الارض في اوروبا بالحرية من الرق اذا حاربوا المسلمين. رأت المدن التجارية الايطالية فرصة نادرة في القضاء على السيطرة الاسلامية الكاملة على التجارة الدولية فساهمت من طرفها في توفير الاساطيل لنقل القوات . وكرست حرب دينية ينخرط فيها ملوك وامراء اوروبا تحت قيادة البابا الزمنية والدينية لاوروبا. ولا نستثني طبعا وقود الحروب من الجنود الاتقياء المـؤمنين بالاهداف العليا للمعركة والذين يموتون لتحقيق دنيا الاخرين. كان تأثير الحروب الصليبية الاقتصادي على بيزنطة وعلى العالم الاسلامي ابعد مدى ً وأشد سوءا من التأثير العسكري. والذي ادى الى انهاء دور العالم الاسلامي كمركز للتجارة الدولية، وانهى دور اللغة العربية كلغة عالمية للتجارة والثقافة، وانتقل كل ذلك الى اوروبا . وعلى المدى الطويل، كرس ذلك فقر العالم الاسلامي.
قامت الحملة الصليبية الرابعة سنة ١٢٠٢م، بأمر البابا اينوقنتيوس الثالث لمهاجمة مصر مركز القوة الاسلامية، ولكن التجار الطليان امروا سفنهم بالاتجاه الى القسطنطينية سنة ١٢٠٤م، ونهبوا ثرواتها ومكتباتها واغروا علماءها، وكان لهذا النهب اثرا كبيرا في انتهاء الامبراطورية البيزنطية وفي اطلاق النهضة الاوروبية، مثلما ساعد في قيام هذه النهضة سقوط الاندلس وصقلية بأيدي الاوروبيين. ولقد اكتفت هذه الحملة بفتح القسطنطينية ونهبها ولم تستكمل خطة اطلاقها بالهجوم على مصر وتدمير القوة الاسلامية الاساسية في الشرق. لقد دمرت هذه الحملة قدسية الحملات العسكرية الصليبية في اعين الاوروبيين. قام البسطاء مرة اخرى بتجريد حملة فوضوية سنة ١٢١٢ تذكر بالحملة التي قادها بطرس الناسك، وضمت البسطاء وبعض الاطفال، وكانت ردا عفويا على فشل الملوك والفرسان في تحقيق النصر. عرفت هذه الحملة بجيش الاطفال، وقد فشلت وتشتت قبل ركوبها البحر وقام تجار العبيد ببيع معظم المشاركين في اسواق النخاسة.
هزم الجيش المصري المغول في موقعة عين جالوت عام ١٢٦٠م، ولا تخفى رمزية اسم المكان وانتصار داوود عليه السلام مقابل جالوت العملاق. وكانت اول هزيمة للمغول منذ خروجهم من الصين، وقام الظاهر بيبرس بالقضاء على الوجود الصليبي في الشرق الاوسط فيما عدا طرابلس وعكا ومواقع اخرى صغيرة. استرجع الجيش المصري بقيادة السلطان المملوكي قلاوون طرابلس عام ١٢٩٠م، وحرر ابنه الاشرف خليل عكا وباقي المواقع عام ١٢٩١م، وبذلك انتهى التواجد الصليبي في بلاد الشام. استمرت حملات ضعيفة في الشرق، ولكن الحملات في الاندلس كانت اقوى وانجح وادت الى انهاء الوجود الاسلامي في اسبانيا عام ١٤٩٢م.
خلفت الحروب الصليبية حساسية عالية عند المسلمين ضد الاوروبيين، وساءت العلاقات بين الشركاء التجاريين التاريخيين. سعت اوروبا للبحث عن طرق اخرى للوصول الى البضائع الهندية والصينية خارج سيطرة المسلمين. استعان فاسكو دو غاما بالعالم المسلم ابن الماجد ونجح في الالتفاف حول راس الرجاء الصالح والوصول الى الهند عام ١٤٩٨م واطلق هذا النجاح الامبريالية الاوروبية في العالم، والتي ما زال العالم الاسلامي وامم اخرى تعاني منها ومن تبعاتها ليومنا هذا. ومن ناحية اخرى انطلق كريستوفر كولومبس يبحث عن الهند عن طريق الدوران حول الارض، تجنبا للمرور بالعالم الاسلامي، ليكتشف العالم الجديد. حدثان هامان اثريا اوروبا ووضعا حدا لغنى العالم الاسلامي الذي افتقر تجاره وبالتالي تدهورت اوقافه وصدقاته التي كانت تمول خدمات المجتمع المدني من تعليم وصحة ورعاية اجتماعية وغيره.
وفي الخاتمة، فشلت الحملات الصليبية (١٠٩٦-١٥٠٠)م في الاحتفاظ بوجود لها في الشرق الاسلامي وانتصرت وانهت الوجود الاسلامي في الاندلس. الا ان تأثيرها الاقتصادي بعيد المدى كان الضربة الاكبر والسبب الادوم في القضاء على الثروة الاسلامية، وانتقال مركز التجارة الدولية من العالم الاسلامي الى اوروبا، واطلاق الامبريالية الاوروبية في العالم، وانهاء اللغة العربية كلغة عالمية. ونتلمس هنا بذور وجذور الوضع الحالي المتهلهل للعالم الاسلامي. وما اشبه الليلة بالبارحة
نسأل الله التوفيق والرشاد
خالد الكيلاني
وأسأل احبتي القراء الكرام مساعدتي في نشر هذه المدونة وتعميمها ودعوة الآخرين الى الاشتراك فيها ان أحسوا انها ذات فائدة للامة، مع شكري وامتناني
وللاستفادة القصوى، اقترح قراءة المدونات بترتيبها العددي التصاعدي ابتداءا من المقدمة ثم من مدونة رقم ١ الى الاعلى