بسم الله الرحمن الرحيم
مدونة 2
نهضت وتفوقت أمم مختلفة الأعراق والثقافات والمعارف خلال الأعوام المائة والخمسين الأخيرة، مثل اليابان، تايوان، كوريا، ماليزيا، وأخيرا الصين والهند والبرازيل وتركيا، وذلك بتبني أفضل العمليات والممارسات الغربية في مجالات التعليم و البحث العلمي والإنتاج والتسويق وغيرها، واعتمدت التحديث لا التغريب لتحقيق ذلك.
هل أعطت الكلمات أعلاه لكل منا نفس الدلالة والمعنى؟
قال حكيم الصين العظيم كونفوشيوس قبل ثلاثة آلاف عام، لو حكمت العالم يوما لوحدت التعاريف. وما اعظم ما قال.
كيف نأمل ان نتفاهم ونضع خطة للنهضة إذا عنت المفردات لكل منا شيئا مختلفا.
ألم يخترع المسلمون علم الدلالة لتحديد معاني مفردات القرآن الكريم ومن ثم توحيد فهمه، ووضع علماء الغرب حديثا علما مماثلا تحت اسم Semantics ؟
نعلم جميعا أن للمفردات تعاريف متعددة، وخصوصا لمفردات واسعة المدلول مثل كلمة نهضة، ولهذا فسنعتمد في هذه المدونة، تعاريف مختارة من جملة المتداول، تكون أساسا لفهمنا ولنقاشنا. ولعل هذه التعاريف وما تساهمون به منها تكون أساسا لبناء قاموس علوم النهضة، إن شاء الله.
ولقد اعتمدنا من التعاريف ما يمكن استنباط وبناء علاقة سببية ومنهجية منه، وذلك بتوفر امكانية طرح السؤال التالي : وكيف نحقق ذلك؟
تعاريف
النهضة هي إحياء التعلم وإحياء الثقافة.
الثقافة هي مجموعة المعارف والعقائد والعادات والسلوك ووسائل التواصل ( أهمها اللغة) والحرف والمهارات والأدوات التي تستعين بها مجموعة متجانسة من البشر على إنجاح التعايش فيما بينها ومع غيرها من المجموعات.
الحضارة وهي كمية او معدل استهلاك الفرد، من خيرات الطبيعة ومواردها بقصد اسعاده.
وهنا يمكن ان نقول ان المهاتما غاندي بمعزته ومغزله كان عظيم الثقافة قليل الحضارة.
واللغة هي وعاء الفكر ومستودع الثقافة ودعامتها، وكل ما يضعفها يضعف احياء الثقافة ومن ثم يضعف النهضة.
التفوق هو قصد وتراكم. اي لا يمكن ان يتحقق التفوق صدفة دون نية صادقة وعزيمة قوية، وبدون بناء الية ناجحة لتراكم المعرفة الافضل، وتطبيقها.
التغريب وهو تبني الثقافة الغربية كاملة، ويشمل ذلك تفاصيل الثقافة المذكورة في التعريف أعلاه.
التحديث وهو أخذ المعارف والحرف والمهارات والأدوات وتعديلها وتأصيلها لتتواءم مع باقي مكونات الثقافة، وتطبيقها بعد استيعابها لتصبح ثقافة محلية.
المعارف وهي جمع معرفة والمعرفة هي علم وخبرة.
أي استيعاب وفهم علم في مجال معين (خاصة تطبيقي) مع إتقان المهارات وأساليب التطبيق العملي لتحقيق النتائج المرجوة من منتجات وخدمات.
مثال: هل يسبح شخص لا يعرف السباحة، حتى لو حفظ أحسن كتب تعليم السباحة عن ظهر قلب؟ هذا شخص علم السباحة ولم يخبرها. واذكر هنا ان معظم التعليم الجامعي في العالم العربي هو علم دون خبرة، وما انعدام او قلة مخصصات البحث العلمي الا تاكيد لذلك.
ألا يسبح طفل عاش قرب بحر دون علم ولا كتب؟
هذا من خبر السباحة دون علم فيها.
ولن يتفوق إلا من علم وخبر؛ وهو من امتلك معرفة السباحة وحسنها واحسنها.
وحتى ننهض في مجال ما، فعلينا احياء التعلم واحيا ء الثقافة في ذلك المجال.
العملية المعرفية هي مجموعة القرارات والإجراءات المترابطة التي نقوم بها لإنتاج خدمة أو منتج لطرف ثالث.
الميزة التنافسية competitive advantage هي الميزة الاستراتيجية التي تمتلكها مؤسسة أو دولة ما مقابل منافسيها في مجال أو قطاع ما.
القدرة الأساسية core competency هي القدرة او المصادر المتوفرة في المؤسسة أو في الدولة و يصعب على المنافسين تقليدها.
عوامل النجاح الرئيسية critical success factors هو مصطلح في الإدارة الاستراتيجية يصف العوامل الأساسية المطلوب توفرها في المؤسسة لتحقيق رسالتها ونجاح رؤيتها.
الاستراتيجية هي مصطلح عسكري أصلا، يصف خطة العمل العامة اللازمة لتحقيق هدف أو الوصول إلى منتهى ما.
الادارة الاستراتيجية هي الحقل الإداري المعني بتنفيذ مبادرات على مستوى الإدارة العليا هادفة إلى تحسين أداء المؤسسة من خلال الاستغلال الأمثل للموارد ةالمتاحة.
التخطيط الاستراتيجي يمثل العملية أو الاتجاه الذي تتبعه المؤسسة لتحديد استراتيجيتها وتحقيقها من خلال اتخاذ القرارات واستخدام الموارد المتاحة.
لقد تبنت دولنا استراتيجية التحديث أحيانا والتغريب أحيانا أخرى، واستقبلت ما قدمته الدول الصديقة من الدعم المادي وأهم منه الدعم الفني ممثلا بالخبراء والخبرات والبعثات والدورات المتخصصة.
ولكن هل أدى ذلك الى نهضة وتنمية مستدامة؟
هل قمنا بالاحتفاظ بالمعرفة وبالأساليب وأفضل العمليات والممارسات التي طبقها الخبراء الأجانب في هذه المشاريع ؟
هل تتم دراستها وتعديلها لتناسب احتياجاتنا ومن ثم تطويرها وتحسينها وإدامتها؟
هل تتم مراكمة التحسينات وصولا إلى الإتقان والتفوق، وأين؟
أين يتم تعليمها جيلا بعد جيل دون الحاجة إلى الخبرة والخبراء من الخارج من جديد، و لربما لنفس الخبرات و لنفس المشاريع؟
هنا يأتي سؤال آخر: ما هي الآلية المؤسسية التي توفر لمصر، على سبيل المثال، تجميع هذه الخبرات، دمجها في نسيج مصر الثقافي والاجتماعي، ومن ثم تطبيقها لتطلق ثورة في التعليم والابتكار؟
وإذا كان التفوق يعني وجود القصد وآلية التراكم، فكيف تكون الآلية أعلاه قادرة على مراكمة الخبرات مؤسسيا وليس فقط في عقول الأفراد؟
من يستقبل الأفكار والإبداع من ابنائنا ويتبناها ويدرس نجاعتها وفرص نجاحها ودعم تطبيقها حتى لا نحبط المبدعين منا؟
كيف يتم وضع مقاييس أداء كمية للمؤسسات وأهمها الجامعات، وكيف تقوم الآلية المقترحة بإدارة جودة التطبيق والتنفيذ، وكيف تتم مقارنتها بأداء المؤسسات الرائدة المماثلة في العالم؟ و كيف يتم تعديل المسار لمتابعة التفوق على مستوى العالم؟
وباختصار، أين تتم مأسسة النهضة ومن المسؤول عنها؟؟
تحديد المسارات
عندما نجحت الثورة في بولندا في تحطيم الحكم الشيوعي، كان تعليق الخبراء في حينه أن بولندا بحاجة إلى سبعين عاما من العمل المنظم الدؤوب لاستيعاب اقتصاد السوق الحر و للحاق بأوروبا، وأن بولندا بحاجة لوضع استراتيجية لنهضتها، وبناء مؤسسات ونظم وقوانين حديثة، وكوادر إدارية كفؤة ، أكثر من حاجتها إلى الدعم المالي المباشر..
اعتمدت الدول العربية نظام السوق الحر منذ سنوات طويلة، ومن كان منها اشتراكيا تحول إلى الرأسمالية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبذلك نكون قد وفرنا من سنوات التحول على طريق النهضة. ولنقل بأننا بحاجة إلى فترة خمسة وثلاثون عاما للوصول إلى هدف واضح كمي، وهو التساوي مثلا بدولة مثل كوريا الجنوبية أو ماليزيا أو تركيا في نهاية هذه الفترة، وبمقاييس أداء كمية متساوية مثل معدل دخل الفرد، مستوى التعليم حسب نتائج الامتحانات الدولية، أو مستوى الخدمات الصحية مثل معدل الوفيات لكل ألف مولود وهكذا، ونحن هنا بحاجة إلى خبرة إخوتنا الاقتصاديين في تفصيل ذلك.
المسارات المقترحة
تعالوا نفكر سويا بخطوط ومسارات متوازية مقترحة للعمل ولتحقيق النهضة تبدأ كلها فورا وتختلف مواعيد إثمارها وقطافها:
– المسار السريع – وهو سريع النتائج من سنة إلى سنتين
– المسار المتوسط – تظهر نتائجه ما بين خمس إلى عشر سنوات
– المسار الطويل – وتظهر نتائجه بعد خمسة عشر عاما، يكون حينها بناء المؤسسات قد اكتمل، ويبدأ القطاف المتكرر للنهضة، ويستكمل حجم الإثمار مع نضج المؤسسات، ونحقق التقائنا بالدول الهدف بعد خمسة وثلاثون عاما.
ولكن التغيير كل اربع سنوات على سبيل المثال ، في رؤساء الدول والحكومات في نظام ديمقراطي انتخابي، والذي لا غنى عنه ، يطرح أسئلة هامة مثل:
من هو المسؤول عن النهضة وتحقيق أهدافها؟
هل إنجاز الحكومة المنتخبة متوافق مع خطة النهضة؟ الأسباب والحلول المقترحة؟
من يعمل على تطوير خطط استراتيجية للطوارئ؟
من يدعم الإنفاق على مشاريع طويلة المدى تظهر نتائجها في عهد حكومات لاحقة؟
لن تراقب الحكومة نفسها، ولن يراقبها البرلمان طالما كانت الحكومة هي حكومة الأغلبية فيه. وما نراه حاليا من الاستدانة غير المسؤولة في كثير من الدول الديمقراطية والتي تؤدي في النهاية إلى إفلاسها، واضطرارها إلى خطط إنقاذ كما في اليونان و إيرلندا والبرتغال وغيرها، رغم أنها دول ديمقراطية، وعن ديون الولايات المتحدة حدث ولا حرج.
تستدين الحكومات لتشتري شعبية لها في الانتخابات القادمة، وكذلك مع المعارضة التي ما أن تنجح، حتى تستدين هي الأخرى لتوفر للناس رفاهية زائفة.
لنقترح مؤسسة (حلا متميزا) لمعادلة نهضتنا هي “بيت النهضة“، وهي مؤسسة مستقلة تمولها الدولة، وتتبع السلطة القضائية المستقلة نهائيا عن الأحزاب وحكوماتهم وبرلمانهم الذي يسيطرون عليه.
ويتميز بيت النهضة بما يلي:
– يتشكل من خبراء إدارة استراتيجية وتخطيط استراتيجي وخبراء في الاقتصاد و قاعدة بيانات اختصاصيين حسب الحاجة ، ذوي خبرة طويلة ناجحة في هذا المجال، يتم ترشيحهم من قبل المؤسسات التعليمية والنقابات والجمعيات وغيرها.
– يضع بيت النهضة مقترح المنتهى الاستراتيجي للدولة، والذي يوضح الميزات التنافسية الاستراتيجية للدولة، لعرضها على البرلمان وإقرارها.
إن انفتاح العالم للتنافس، وخصوصا مع توقيع معظم الدول على اتفاقية التجارة الحرة وخضوع الدول الضعيفة لنظام عولمة متحيز لصالح الدول المتقدمة، حيث يشترط هذا النظام إسقاط حواجز الحماية للمنتجات المحلية مثل الجمارك واستبدالها بضريبة مبيعات لا تميز المحلي عن الأجنبي.
يتم منع منتجات الدول الضعيفة من الدخول إلى الأسواق العالمية المتقدمة لأسباب كثيرة مثل المواصفات والمقاييس ومستوى الجودة، وكيف لشركات ضعيفة في اقتصاديات ضعيفة الالتزام بهذه المواصفات والمقاييس وتوفيرها.
ولعل قائل يقول ان بعض الحكومات قامت بانشاء مراكز دعم القرار، ولها اهداف شبيهة بما ذكرت، واقول انني اتكلم عن مؤسسات وطنية منتخبة، يراقب البرلمان اداءها وتراقبه ، وعن قضاء عادل حازم حاسم.
وسنأتي لاحقا لتعريف وشرح أوضح لبيت النهضة إن شاء الله.
لكن يجب أن يتم تعيين مؤسسة مسؤولة عن تحقيق مسارات النهضة، ولو بشكل مؤقت، لغاية إنجاز بناء مؤسسة بيت النهضة أو ما يقوم بدورها على المدى الطويل، وهي أداة مبتكرة مقترحة لنهضتنا توفر لنا إمكانية السباق بحلول أصلية.
سنناقش في المدونة القادمة أفكار المسار السريع إن شاء الله.
ونسأل الله التوفيق والرشاد…
Like this:
Like Loading...